فيرونيكا تعيش حياة القداسة منذ طفولتها وتبتكر عذابات شديدة لتبدأ مسيرة التكفير

1٬114

الفصل الثاني – اختيار الضحية

بينما كانت أورسولا تقيم المذابح، كانت الأم والأخوات، وهنّ يعملن بالإبرة أو بالحياكة، يقرأنَ حياة الشهداء وحياة القديسة التائبة الكبيرة «روز من ليما». فتشرّبت الإبنة الصغيرة بلهفة، وهي تنسّق الزهور والشموع، روح تلك القراءات الشديدة التقوى. لم تقتصر الأم والبنات على التأمّل بأمثلة القديسين، بل اقتدَينَ بهم. فلدى انصرافهن كلٌ الى غرفتها الخاصة، كنّ يقمنَ بجلد أنفسهن بضربات منتظمة وقوية حيث كان وقع الجلد يصل الى مسامع الطفلة.

وهكذا دعا الله أورسولا بواسطتهنّ الى عمل التكفير. ففي هذه النفس الفتيّة ذات المشاعر النبيلة والأفكار السامية، أخذت عقيدة التكفير تتّضح وتتوطّد. «سأتألّم، وسأكفّر». هذا ما كانت تفكّر به، فبدأت العذابات.

قد سحقت قديستها العزيزة «روز من ليما» اصبعها تحت غطاء صندوق، فمن يسحق لأورسولا اصبعها؟ لقد عمدت الى إدخاله في شقّ باب مفتوح، وانتظرت، فحصلت على مبتغاها. إذ فجأة ظهر كلب ضخم يريد الدخول، فأغلقت الأخت البكر الباب بقوّة، فإذا بالإصبع يدخل بين الباب والعضادة، فتحطّم كليّاً. وما ان رأت الأخت هذا المشهد حتى صرخت عالياً شاكية نفسها بأنها كادت تقتل أورسولا الصغيرة، فرحة البيت الوحيدة. لكن أورسولا لم تذرف دمعة، ولا حتى عندما أسرع الطبيب الجرّاح وراح يقطع اللحم الحي. فقالت: «لماذا تعتنون بي؟ يجب التألّم». وإن أحد كبار المؤلّفين سيكتب: «يا موسيو شيفولا، قد تمّ التفوّق عليك».

يجب التألّم. الإصبع لا يزال مضمّداً وهي تبتكر عذاباً جديداً. تشتعل في غرفة المغارة ناراً حامية حيث يعبق البخور. النار! آه لو استطيع أن أقضي في النار ككثيرات من العذارى الشهيدات! فأدخلت فيها يدها على أمل أن يحرقها اللهيب كليّاً. لكن العناية الإلهية أرسلت أختها في الوقت المناسب، إذ لو تأخرت دقيقة لكانت اليد التي أخذت تحترق جلدتها وتكمّشت أصابعها، غدت رماداً.

مرة أخرى، وبدون انتباه، غرزت أمها المقص في لحم رجلها عندما كانت تقلّم لها أظافرها؛ وبينما الأم تتأسّف وتحزن لذلك، كانت الطفلة ترقص فرحاً وتقول: «شابهت قليلاً قديستي الحبيبة روز». ورفضت أي نوع من العناية.

يجب التألّم. تسلّحت بحبل وشدّته على ذراعيها وساقيها حتى كاد الدم ينفر منها، وكوّمن في الحديقة بعض الحجارة قائلة: «أسقطي عليّ». تجلِد ذاتها بالشوك والقرّاص. لماذا لا تملك مجلدة كأخواتها؟ فصنعت مجلدة قاسية العُقد بواسطة أهداب مريولها، ثم أخذت تجلد نفسها. وعند انتهاء الجلد كانت تذهب وتُخبّئ المجلدة في فجوة من الحديقة، وتتحيّن الفرصة لتكون وحدها فتكرّر الجلد. ذات يوم، فاجأتها أمّها بالجرم المشهود وهي تقوم بعمليّة الجلد، ولكنها انسحبت لتخبّئ دموعها. هل ستحصل على نعمة كونها أمّاً لقديسة؟

أخذ يسوع يدعو الضحية الى التضحية بواسطة العائلة، يدعوها مباشرة وشخصياً. فكان يظهر لها مصلوباً ومثخناً بالجراح النازفة ويقول: «أنت عروسي، وشريكتي في التكفير. إن الصليب ينتظرك». وكُتب منهج حياتها: عليها أن تمتنع عن كل الملذّات الأرضية، عليها أن تتحمّل كل حرمان، وكل تضحية.

إماتة الفضول: مرّت ذات يوم جماعة تنكريّة في الشارع، فأرادت البنت الصغيرة، بحسب سنّها، أن تركض نحو النافذة لتبتهج بالمشهد؛ ولكن صوتاً أوقفها: «عليك أن تتأمّلي فيّ انا وحدي». فحوّلت عينيها عن المشهد الى المصلوب لتمتلئ برؤياه، فمدّ ذراعه ليضمّها إليه.

إماتة الحواس: ذات يوم نالت كيساً من الملبّس. يا لفرحتها! فأكلت منه بضع حبّات، ثم خبّأت الباقي لتتلذّذ به فيما بعد. لكن بدا لها الطفل يسوع قائلاً: «إكراماً لي أعطي هذه الحلوى لأول فقير ترينه». ثم توارى الطفل يسوع.

وعلى الأثر حضر فقير فقسمت الحلوى بينها وبينه. ثم جاء فقير آخر فأعطته تقريباً كل الباقي محتفظة فقط ببضع حبّات بدت لها شهيّة. ولكن الحبّات ثقلت عليها وأضحت كتوبيخ لها، فألقت الجميع من الشبّاك ما عدا قطعة بسكويت دخلت فمها البريء خلسة. يا لقطعة البسكويت المغرية، كم ستكفّر عنها فيما بعد، إذ اعتبرتها خطيئة شراهة فظيعة!

إماتة الزهو والكبرياء: كم كانت سعيدة تلك الفتاة الصغيرة بحذائها الجديد الذي لاءم رِجلها اللطيفة. لكن ما أن جرّبته حتى انطلق صوت مرتعش من عمق الشارع يسأل الرحمة باسم الله. تذكّرت الطفلة الوصيّة الإلهيّة فرمت للشحّاذ فردة من الحذاء، ولكن تلزمه الفردة الثانية، فرمتها: وقعت على حافة المدخل، والحافة عالية لا يستطيع المرء الوصول إليها. لكن الشحّاذ المسافر أنزلها وسط دهشة المارّين. فسار وهو يبارك المحسنة التي ستعلم، يوماً، أن هذا المسافر الغريب كان يسوع نفسه. كبرت أورسولا وأصبحت تستعمل كامل طاقاتها العقلية فأدركت من هو ذاك الطفل الجميل الذي غالباً ما كانت تراه على المذبح، وفي المغارة، وفي البستان. عرفت أن هذا هو يسوع ابن الله ومخلّص البشر.

وأدركت أنه حيّ في الإفخارستيا وأنه يُعطي ذاته طعاماً. إنها جائعة إليه بجوعٍ يتآكلها. عندما تتقدّم أخواته الى المائدة المقدّس، كان قلبها يقفز منها متعطّشاً وملتهباً حتى أن شفتيها كانتا تنفتحان صارختين: «تعال يا يسوع!». آه متى ستتقاسم سعادة المتناولين! كانت تتوسّل الى معرّفيها ليقدّموها الى المناولة الأولى، ولكنهم كانوا يؤجّلون ذلك تبعاً لتقليد ذلك العصر الذي كان يمنع الصغار من التقدّم الى الوليمة الإلهية.

ها قد أصبحت في عامها العاشر، وقد وصلت الى «بليزانس» والقدّاس سيقام بمناسبة عيد تطهير العذراء. كم كانت تتمنى لو تستطيع أن تُقبّل ذاك الذي حملته مريم وسمعان وحنّة على أياديهم! فتضاعفت لجاجتها وعيناها مغرورقتان بالدموع. يا للسعادة! فقد استجيب طلبها، وراحت تتأهّب لذاك الأمر العظيم بامتحان دام يومين، وبتضحيات سخيّة. لا بدّ أن الملائكة من العلاء أحيوا هذا العيد في 2 شباط 1670، لأن ملكهم سيمنح ذاته الى عروس جديدة، هي عروس ملكة. لم تستطع أورسولا أن تنام في الليلة السابقة لموعد مناولتها الأولى، وفي الساعة التي انفتحت فيها شفتاها للقربانة المقدّسة، سمعت صوتاً يرنّ في أذنها قائلاً: «هذا أنا! أنا معكِ!»

كان معها ليكمل فيها عملها التكفيري. وفي يوم الاحتفال بالقربانة الأولى، رأيناه يدعو الذبيحة اللطيفة الى التضحية. فاهتزّت الضحيّة لهذه الدعوة، وراحت تطلب بحبّ خالص نعمة أن تقوم دائماً بما يرضي الرغبة الإلهية، تلك الرغبة التي كانت تريدها للفداء. فإذا القربانة نار تحرق أعضاءها، تحرق قواها، والنار التي ظلّت تحرقها عند خروجها من الكنيسة، وحتى في البيت! راحت تسأل أخواتها بكل سذاجة: «كم من الوقت نشتعل؟»

أيا أورسولا، كم أنت محبوبة لدى ذاك الذي هو الحبّ. إنك لا تعرفين حتى الآن، لكنك ستعرفين ذلك جيّداً عندما سينزل، فيما بعد، على شفتيك ويقول: «أنزِلُ في سمائي».

إن أورسولا محبوبة لأنها قبلت القيام بدور الضحيّة. الضحيّة ستسير في الطريق الى المذبح. وقد راح المُضحّي الإلهي يزيّنها ليقودها الى هناك.

مواضيع ذات صلة