بلدة القديسة فيرونيكا جولياني، ولادتها، عائلتها، وأعاجيب طفولتها

2٬292

الفصل الأول – ظهور الضحيّة

في ذلك الزمان كان الإسلام يهدّد المسيحية، والمذهب الحسّي (Sensualisme) يعم الجماهير، والفلسفة في شخص «سبينوزا وبايلي» تقوِّض الإيمان، والجانسانية تخنق الرجاء وتطفئ المحبّة والرحمة، والملكية تعتدي على حقوق الكنيسة، انتظاراً للديمقراطية التي ستعادي الملوك وتغلب السلالات الحاكمة وتحطّم العروش وتدحرج التيجان. فأقام الله حاجزين في وجه هذا الخضم من الشرور: امرأتين ضعيفتين هما القديسة «مارغريت ماري» والقديسة «فيرونيكا جولياني». وكلتاهما ضحيّة العدالة ورسولة المحبّة.

تزامن خروج القديسة «مارغريت ماري» وهي في الثالثة عشرة، من مدرسة الكلاريس الداخلية في «شارول»، مع ولادة القديسة «فيرونيكا».

في إيطاليا بلد كبار المتصوّفين، وفي إقليم «بيزارو» ولاية «أوربان» سابقاً القائمة على السفح الشرقي لمرتفعات «ابينان» على الضفّة اليمنى لنهر «ميتاوري»، في قلب طبيعة مترامية الأطراف، تقوم «مركاتيللو»، بلدة متواضعة ، لكنها جليلة المقام، هي مسقط رأس قديستنا.

تقوم ضمن أسوارها ثلاثة معابد: كنيسة البلدة حيث نالت «فيرونيكا» سرّي العمّاد والتثبيت، كنيسة القديس سبستيان، التي بسبب قربها من مسكن عائلة جولياني كانت تأتي غالباً اليها للصلاة، وأخيراً كنيسة «الكوردوليه»، الذين زالوا من البلدة اليوم، حيث اختارت والدتها، بفعل تعبّدها للقديس فرنسيس، أن يكون مثواها الأخير. ونرى أيضاً في البلدة، دير راهبات القديسة كلارا القديم حيث عاشت أخواتها. أمّا بيتها الأبوي، فقد تحوّل حسب نبوءتها، الى دير ذي واجهة قشفة، ومعبد مضياف ومحبوب من المؤمنين. ولا يزال يضمّ بكل تقوى الغرفة التي وُلدت فيها، وهي غرفة واسعة وعالية، حيث ينتصب الآن مذبح، وحيث تُقرأ هذه الكتابة:

«هنا وُلدت القدّيسة فيرونيكا جولياني» في 27 كانون أول 1660

ووُضع على الجدران عدد لا يحصى من الذخائر: شعر، نقاب (طرحة)، الثوب، السكابولير الذي كانت ترتديه يوم اتّسمت بالجراح، نماذج من خطّها العريض المتلاحق السريع والسخي، مجالد من حديد وأدوات أخرى للتكفير.

غرفة مولدها! هنا رأت النور، وأطلقت صرختها الأولى، هنا حصلت ظهورات عدّة وتمّت عجائب كثيرة. وكل من حجّ وقرأ قصّة القدّيسة، لا يبقى واقفاً بل تنحني ركبتاه، وتلثم شفتاه طويلاً تلك الأرض المقدّسة.

عائلة جولياني كانت إحدى أشرف العائلات في البلاد. والدها المدعو فرنسوا كان يشغل منصب قاضي البلدة، وهو رجل ذكي وطموح، يصبو الى وظيفة أفضل، وسنراه يوماً ناظراً لمالية دوقية بارما.

وأمّها بنوات (مباركة) مانشيني دي سانت إنج، كانت عميقة التقوى، تهتمّ بأنفس بناتها وتحذّرهن من بشاعة التبرّج العالمي، تعلّمهنّ مبادئ الديانة، وتدرّبهنّ على الممارسات الدينية، فتضفي على دارها مظهر دير. لها سبع بنات، إثنتان توفّيتا وهما طفلتان، وأربع أضحين راهبات. الأخيرة هي أورسولا التي ستشتهر في الرهبانية باسم فيرونيكا.

يا لشرف هذه العائلة! لقد رأت القدّيسة والديها في السماء، ورأت أخواتها الراهبات، حتى خلال حياتهن، في قلب يسوع. يا لشرف هذه العائلة التي كانت ثمرتها الأخيرة بطلتنا، أعجوبة الدهور.

بدت أورسولا كملاك أرضي لدى خروجها من جرن العمّاد الذي حُملت إليه في اليوم الثاني لمولدها. فلا بكاء ولا صراخ. حيث ما توضع ومهما أجري لها كانت تُشاهد في مزاج هادئ وسرور دائم.

إليكم الأعجوبة، مجيئها كان رائعاً. وما من شيء يؤخّر نموّها الجسدي، لكنها في بعض الأيام، كانت ترفض بهدوء وإصرار الحليب الوالدي. أخذ السعي مجراه لاكتشاف هذا السرّ، فلوحظ أن هذه الأيام هي تلك التي جعلها التقليد مكرّسة للتوبة وهي الأربعاء والجمعة والسبت. وقد لوحظ بدهشة أن هذه الأصوام كانت بدل إضعافها تزيد في تورّد وجنتيها ونضارة بشرتها.

العجائب تتضاعف، فبينما أورسولا هي في الشهر الخامس من عمرها، وهي على ذراعي أمّها، لمحت صورة الأقانيم الإلهية الثلاثة معلّقة على الحائط، وصادف ذلك اليوم بالتحديد عيد الثالوث الأقدس لسنة 1661. فأفلتت من ذراعي والدتها، وبقدم ثابتة أسرعت نحو اللوحة وركعت في حالة انخطاف.

كانت أورسولا بعمر ستّة أشهر، وبعضهم يقول بعمر ثمانية عشر شهراً، مع مرضعتها عند تاجر زيت لم يفِ الكيل حقّه. فاغتاظت الطفلة لهذا العمل، ومدّت ذراعها الصغيرة وصرخت: «أقم العدل، فالله يرانا». أتت النبرة مدوية كالصاعقة فأسرع المحتال لإصلاح غشّه، وأسرعت الخادمة التي أصيبت برعشة تقوية، لتقصّ ما جرى على أهل البيت.

الله يرانا! ذلك هو الشعار الذي سيسم من الآن وصاعداً أبواب صوامح دير «شيتا دي كاستيللو».

ها هي أورسولا في الثالثة، ولأوّل مرّة وهي على ركبتي أمّها، تحضر القدّاس صامتة. وعند رفع القربان صدرت عنها صرخة فرح فاتّسعت حدقتاها، إذ قد لمحت على المذبح طفلاً جميلاً يبتسم لها وهو يتألّق بأشعّة المجد. فما كان منها إلا أن حاولت لاشعورياً الإندفاع نحوه لكي تضمّه. ولكن عندما شعرت بأنها محصورة بين ذراعي أمّها، راحت الدموع الساخنة تنهال على وجنتيها. آه! لكم وكم ستعود وتعود الى أقدام هذا المذبح. وكم من مرة تعود الرؤيا السماوية تظهر لها، متُبهج نظرها وقلبها. لم يخطر ببالها قط بأنّ هذا الطفل هو المضحّي وهي نفسها ستكون الضحيّة.

مواضيع ذات صلة