مطهر ثلاثي تعرضت له القديسة فيرونيكا بسبب زملائها الأطباء والراهبات، الطاعة والشياطين

10٬006

عندما بدأت أيام نزاع القديسة فيرونيكا التي دامت 33 يوماً ومرت خلالها بمطهر ثلاثي، تفاقم مرضها وازدادت أوجاعها، فأصابتها حمّى عنيفة وآلام حادّة في رأسها وأسنانها، رافقت آلامها تشنّجات وأوجاع في مفاصلها وجهازها العصبي كلّه. وشعورها بالغثيان المتواصل الذي منعها من تناول أي طعام أو دواء. حتى أنها طوال هذا المرض الرهيب تمكّنت أن تبتلع عدّة قطرات فقط، وبصعوبة بالغة.

المطهر الأول – زملائها المخلوقات

في اليوم الثالث لمرضها نقلها طبيبها بعناية الى الغرفة الثالثة في المستوصف، حيث بقيت لمدة ثلاثين يوماً أخرين وبعدها أسلمت الروح. يمكننا التصوّر أن الطبيب والراهبات قاموا بكل شيء ممكن، من عناية أو مهارة بشرية وطبيّة متوفّرة، لإنقاذ حياة القديسة المحبوبة. الراهبات، الأسقف، وكل البلدة، فعلوا كل ما باستطاعتهم لمساعدتها، بشكل خاص الأطبّاء. فقد كانت عالية جداً الكرامة والتقدير الذي كنّه الجميع للمريضة المنازعة.

حاول الأطبّاء علاجها بإسالة الدم، ووضع الحديد الساخن على مؤخّرة رقبتها، واستعمال الأدوية الأكثر كلفة. كل ذلك شكّل أوّل مطهر الذي كان عليها الخضوع له، وهو الذي يأتي من زملائها المخلوقات. العلاجات التي أخضعوها لها لم تؤدّي إلّا لزيادة معاناتها وأوجاعها، والشيء نفسه يمكن أن يقال عن الإهتمام الذي بذلته الراهبات.

على الرغم من أنّها لم تشتكي أبداً، إلّا أنه كان واضحاً من حركاتها المتشنّجة أن كل حركة كانت تسبّب لها آلاماً شديدة. سعت الراهبات للتخفيف عنها بواسطة تغيير وضعيّتها، لكن بالرغم من أنهنّ قمن بذلك بمنتهى الحذر، لم يساعد ذلك سوى على جعل حالتها أسوأ. في إحدى المرات أعلنت أنّ معاناتها كانت أشبه بعذابات جهنّم. لا سيّما شعورها بغياب مرشدها الروحي السابق الأب تاسيناري. كانت تلك مشيئة الله أن خلال كل هذه المرحلة من مرضها أن يغيب مرشدها الذي مرض هو أيضاً. كان هذا الأمر الوحيد الذي أظهرت فيه فيرونيكا أسفها، لكنّها استسلمت لعناية الله ومشيئته.

المطهر الثاني – الطاعة

أخضعها هذا المطهر لتجارب مؤلمة وجعلها تعاني أكثر من الأول. كانت تتوق بحرارة للإتّحاد بحبيبها الإلهي دون تأخير، لكنّها لن تفعل ذلك دون إذن معرّفها. لذلك فإنّها طلبت منه مراراً أن يعطيها الإذن كي ترحل عن جسدها وتموت. إلّا أنه كان يرفض دائماً حتّى آخر لحظة، كما سنرى لاحقاً. كانت فيرونيكا تعاني كثيراً من هذا الرفض، ففي إحدى المرّات التفتت لأولئك الذين بجانب سريرها وهتفت: “كم هو غريباً أن يشعر المرء بأنه يموت، ومع ذلك هو غير قادر على الموت!” مرضها ومعاناتها أنهكت قواها لدرجة أنها لم تقدر أن تتردّد في أخذ كل ما يُعرض عليها، بالرغم من كونها غير قادرة على ابتلاع الطعام او الدواء.

كل هذا سبّب لها الكثير من التوبيخ والتأنيب من الراهبات ومن معرّفها، مفسرّين عدم قدرتها على تناول الأدوية والطعام أنه عدم طاعة. والذي سبّب لها استشهاد استثنائي، إذ لم تُظهر قديستنا غيرة سواء نظرياً أو بالممارسة، أكثر من غيرتها طوال حياتها على تطبيق فضيلة الطاعة. في ذلك الحين دعا الأب غيلفي الأب فينسنت سيغابيللي ليساعده في رعاية فيرونيكا ومرافقتها روحيّاً.

في إحدى الليالي، عندما قرع الجرس لصلوات الفجر، التفت الأب سيغابيللي الى قديستنا التي لم يكن بإمكانها استخدام جانب من جسدها وقال لها: “أيتها الأخت فيرونيكا، ألا تسمعين الجرس يعلن وقت صلوات الفجر؟ ألن تذهبين؟” لقد كان ذلك كافياً أن يجعلها تبذل جهوداً مضنية للقيام من سريرها. لكن الأب كان معجباً بطاعتها البطولية، وأمرها أن لا تتحرّك.

في يوم آخر، خلال مراقبته لها حصل الأب سيغابيللي دليلاً آخر على تواضعها وطاعتها، ذلك حين شاهدها تخفي تحت الغطاء يديها المغطّاة بالضمادات كان رؤساءها قد سمحوا لها بغرض إخفاء السمات المقدّسة. فأراد تجربة طاعتها وتواضعها فاستفسر بازدراء: “ما هو معنى هذه الضمادات؟ هذا نفاق هائل”. بلحظة قدّمت له يدها اليمنى، لأنها لا تستطيع تحريك اليسرى وبفرح أجابت: “أنا مستعدّة أن أفعل ما يرضيك، الطاعة أعطتني إياهم، والطاعة ستأخذهم.” لكن هذا العمل كلّف تواضعها حزناً عظيماً لكونها ملزمة على إظهار علامات الشرف – السمات. هذه الأمور كانت شاهدة عليها الأخت ماري جوانا ماجيو وذكرتها في شهادتها أثناء التحقيق في دعوى تطويب القديسة فيرونيكا.

المطهر الثالث – الشياطين

كانت الشياطين تحاول عدّة مرات إغراءها وتخويفها، بواسطة ظهورهم لها بأشكال سوداء متوحّشة مرعبة. أو كانوا يتّخذون أشكال حمير، ينهقون في أذنها ليضاعفوا آلام رأسها. أو كان أحد الشياطين يتّخذ شكل طبيبها ويتكهّن أكثر الأمراض إثارة للإشمئزاز بهدف إخضاع صبرها الذي لا يُقهر. لكن الأسوأ من ذلك كلّه كان تحوّل الشيطان في أحد الأيام الأخيرة من حياتها متّخذاً هيئة الأسقف.

كانت وحدها تماماً، حين حضر “الأسقف” ودخل غرفتها. أعلن لها بلهجة تهديد، أنه تمّ أخيراً اكتشاف حقيقتها، وأنها حياتها كلّها كانت نسيج واحد من من النفاق الماكر والشرير، والأوهام الشيطانية. وأضاف أنه سيعود بعد الظهر برفقة ضبّاط محكمته، حتى بحضورهم وحضور جميع الراهبات، تعترف وتتخلّى عن خيانتها.

هذه الحادثة أخبرتها الراهبات الأخت مريم المجدلية بوسكايني، الأخت ماري سلستين توسي، والأخت ماري سلستين ميزوللي، اللواتي أدلوا بشهادتهم خلال عملية التطويب: كانوا في المستوصف حين دعتهم القديسة فيرونيكا وقالت: “بناتي، أوصوا بي من كل قلبكم الى الله، صلّوا من أجلي”. فسألوها ما الذي حدث فأجابت: “الأسقف كان عندي وأخبرني أنه يعرف أني قضيت حياتي كلّها في النفاق، وفي خداع إمّا نفسي أو الآخرين. وقال أنه سيعود مرة أخرى خلال النهار بصحبة أناس آخرين من أجل أن أتخلّى عن النفاق بوجودهم وأمام جميع الراهبات. إن كانوا يوافقون ويقولون أن الأمر فعلاً كذلك، فلا بد أنهم حصلوا على استنارة بخصوص حالتي الحقيقية، وأنا على استعداد لأن أطيع”.

الى هذه الدرجة كان إنكار نفسها متواضعاً، ومتّحد مع طاعتها البطولية. أما الراهبات الثلاث فكُنّ مندهشات مما سمعن وأكّدوا للقديسة فيرونيكا أن الأسقف لم يتواجد في الدير هذا الصباح. “ماذا تعنون؟” سألت فيرونيكا. “أعتقد أن الأسقف ينزل الآن الدرج، وما تقولونه لي هو فقط لتجنّبونني الألم”. في الواقع لم يأتي الأسقف الى الدير في ذلك الصباح فاكتشفن الراهبات أن الشيطان اتّخذ هيئة الطبيب بغية مضاعفة معاناتها ودفعها الى اليأس.

على الأرجح أنّ ضعف الذاكرة الذي كان يحصل معها خلال هذه الفترة في اعترافاتها المتكرّرة، كان وسيلة أخرى من الشيطان، ما لم ننظر إليه كتجربة سمح بها الله. لكن عندما كانت على وشك لوم واتّهام نفسها، كانت تنسى كل الأمر. لهذا السبب كانت في كثير من الأحيان تخضع لتوبيخ معرّفها، الذي اعتمد اتّهامها بالإهمال ليختبرها. كان هذا الأمر معروفا في الدير. والراهبة فلوريدا كيولي، معاونتها، سألتها لماذا لم تعترف بما حدث، أجابتها فيرونيكا بتواضع عظيم: “يعلم الرب أي آلام تحمّلت حتى أقوم بالإعتراف بالأمر، وكم رغبت في ذلك بشدّة. لكن عندما أحاول اتّهام نفسي وأنسب أخطائي الى نفسي، أجد أنني نسيت تماماً كل شيء”.

وبتواضعٍ أكبر، وفي أكثر من مناسبة، كانت تسأل إحدى المبتدئات إذا كانت تتذكّر أي شيء قد نسيت هي أن تخبره لمعرّفها. تعاطفاً معها كانت المبتدئات يقترحن عليها أمراً او إثنين، تماماً كما هو الأمر مع الطفل الذي يتقدّم من الإعتراف للمرّة الأولى. “ليكافئك الله” كانت قديستنا العظيمة تجيب. “سوف أنسِب ذلك الى نفسي كما نصحتني”

هذا المطهر الثلاثي، الى جانب العذابات الأخرى، شكّلت أول فئة من النّعم الخاصة التي منحها الله الى خادمته المتواضعة. نحن ندعوها نِعم، وإن كانت لن تظهر كذلك بالنسبة الى مراقب سطحي. لكن ليسمح القارئ أن يضع في اعتباره أنّ الرب يسوع اختار لنفسه حياة الألم والمعاناة منذ لحظة ولادته والى أخر لحظة حتى موته على الصليب.

لا توجد نعمة اشتهتها فيرونيكا وطلبتها بحرارة من المصلوب يوم إبراز نذورها وبدء الأعراس السماوية سوى “الآلام والمزيد من الآلام”. ومع ذلك، لم تكن تلك النعمة الوحيدة الثمينة الى أسبغها الله عليها في أيام مرضها الأخير. فقد استمدّت مكافأة وترضية من زيارات الأسقف المتكرّرة لها. كانت تطلب منه دوما أن يسمح لها حمل صليبه الذي يلبسه على صدره بين يديها، فكانت تنظر الى المصلوب، تداعبه وتقبّله بمنتهى الحبّ والمودّة. وعندما كان الأسقف يمنحها بركته بواسطته، كانت تقول أنها تشعر براحة وعزاء. لكن التعزية الأعظم كانت نعمة حصولها على المناولة المقدّسة كل يوم، بحسب وعد وإذن الأسقف. في هذه المناسبات كانت فيرونيكا تشعّ حبّاً وسلاماً يخفّف من حدّة نزاعها الطويل.

يتبع في المقال التالي، الكلمات الاخيرة للقديسة فيرونيكا وانتقالها إلى السماء

مواضيع ذات صلة