كيف تغلّبت فيرونيكا على محاربات الشيطان منذ دخولها الدير بالرغم من الصعوبات والتجارب
الفصل الخامس – تكريس الضحية
أضحت فيرونيكا، في الدير، تلبس الثوب والطرحة البيضاء علامة خطبتها للمسيح. إنها في قمة تمنياتها. ففي الليلة الأولى، فيما كانت ترتاح على الألواح، ظهرت لها رؤيا. جمع كبير من الملائكة والقديسين، ثم العذراء الدائمة الطوبى، ثم الرب بشخصه يعايدها بالحركات والنظرات ويقول لذلك الجمع السماوي: «إليكم ولدنا!» ثم سألها ماذا تطلب، فأجابته: «حبّك». فبدا لها وكأن الحب اخترق كيانها كله. ثم سألها مجدداً ماذا تريد. فقالت: «أطلب منك هذه النعم الثلاث: الثبات في دعوتي، إتمام مشيئتك، وأخيرا – وقد عرفت ذاتها بأنها ضحية – أطلب عذاب الصلب». فأجابها: «لقد اخترتكِ لأجل العمل العظيم، ولكنك ستقاسين استشهاداً طويلاً حباً بي».
بدون أن تشعر بذلك، لم تعد فيرونيكا في مرقدها، بل وجدت نفسها راكعة على البلاط ونور سماوي ينتشر في صومعتها. أخيراً، اضمحل النور من أمام عينيها، ليشعّ نور آخر في نفسها: أضحت تملك علم القديسين.
كان فرح من جهة السماء، وفرح من جهة الأرض، لأن الأخوات أحطنها بكل محبّة، فيدعونها «الصغيرة». وبعد ذلك، وفجأة، وقعت تحت قبضة الألم. والدها وأخواتها غائبون فطلبتهم. وهل تستطيع أن تبقى بدونهم؟ اشتاقت إليهم كثيراً، وزادت مرارتها كونها تقاسي نفوراً عاماً من كل أمور حياتها الجديدة.
نفور من المكان: الدير هو سجن أسود وبارد، فخيّل لها بأن قضبان المشبك تغرز في عينيها وفي أعماقها؛ أضحى الدير حفرة على هيئة قبر أخذت حجارته تضغط على صدرها، فأتتها فكرة الهرب من السطح.
نفور من العمل: عمل الخياطة الّذي ما أحبّته يوماً، إذ إنها كانت تميل إلى عمل الرجال، لا إلى أعمال الترقيع والغسيل والمطبخ. كل هذه الأعمال اليدوية كانت متروكة للخدم في البيت الأبوي.
نفور من الفرض الإلهي الذي بدا لها معقّداً. نفور من التأمل الذي كان يبدو لها أكثر تعقيداً. إن إدارة الدير الروحية تضع نظاماً منظقياً فكرياً مع تقسيم متشعّب، وممارسة متدرجة حسب المستويات. إنه منهج منطقي. منهج ممتاز للسواد الأعظم ولكنه ليس لها. سواء طفلة أم مراهقة، في «مركاتللو» أو في «بليزانس»، كانت تتفرّغ للصلاة، إنما بشكل عفوي وطبيعي كعصفور يصدح، أو كخرير ينبوع، أو كزهرة تنشر عبيرها، أو كالشمس التي تشعّ، على مثال القديس فرنسيس، مدفوعة بحرية من قبل روح المحبّة. وإذ بها وكأنّها شلّت من كل حركة، وكُبِّلت بالحديد، فأُطفِأَت النار التي تحرقها لإشعال نار ربّما لن تلتهب.
نفور من الأشخاص: بدت الأم الرئيسة وكأنها بدون فطنة، والأم المعلّمة بلا روية ورفيقاتها مختلفات الطباع. وأما المعرّف فامتلك موهبة إغلاق قلبها وفمها، فبقيت سبعة أشهر دون أن تفتح ضميرها له.
لقد انقلبت محبّة بعض الأخوات الأولى إلى نفور وعداوة. وقد أكلت الغيرة إحداهن فأخذت تشوه سمعتها في أنفس الأخريات، وبدت الوجوه التي تصادفها تنمّ عن الحذر والاحتقار، وأخذت الأم الرئيسة والأم المعلّمة تسبّبان لها ألماً نفسياً جارحاً.
ماذا إذن! ألم تكن تستحق هذه الشكوك المؤلمة؟ ألم تكن قد انتهكت القانون من ناحية فضيلة المحبّة؟ ألم تدخل صومعة أخت مبتدئة لتجعلها تنفر من الأم الرئيسة بنوع مهين؟ إن المبتدئة امتلأت نفوراً فذهبت وشكتها إلى السلطة، فما كان من المعلّمة إلا أن عاقبت المذنبة بمواجهتها بالصمت الكامل وبالبرودة.
لا! إنها لم تفعل كل ذلك، سينجلي الأمر، على ضوء الواقع، فيما بعد. إن الشخص الذي افتعل ذلك لم يكن فيرونيكا ذاتها، بل هناك من اتخذ ملامحها وقام بكل ذلك. وسيتضح هذا اللغز بهذا الحدث الغريب:
بينما فيرونيكا تصلّي وحدها في صومعتها حضرت معلّمة الابتداء لتبثّها سراً، كما زعمت؛ ومع أن المبتدئة غالباً ما وقفت بحضرة الأم المعلّمة، إلا أنها شعرت هذه المرة بتوعّك وخوف. وهذا هو السر: إن المعرّف سيُستَبدَل بسبب فيرونيكا التي انتقصت من الفطنة والفضيلة. فأوصتها بألا تفتح قلبها للمعرّف وحتى إلَّا تعود تعترف أبداً. أخيراً طلبت منها باسم الطاعة: حفظ هذا السرّ وعدم البوح به إطلاقاً.
قرع جرس صلاة النوم، فاستأذنت فيرونيكا المضطربة جداً الأم المعلّمة وأسرعت إلى الخورس، ويا للعجب، كانت الأم المعلّمة هناك منذ بعض الوقت. إذن ليست هي التي رأتها المبتدئة في الصومعة. سيُدرَس هذا الحدث كسابقه، وستظهر الحقيقة. لا، ليست المعلّمة التي تكلمت مع فيرونيكا، لأنها كانت في الخورس. وليست فيرونيكا التي اغتابت المعلّمة لأنها كانت، في تلك الساعة نفسها، عند المعلمة. فما هو هذا السر؟
لا يجب السكوت عن إظهار الحقيقة أو تمويهها خوفاً من سخرية أحد غير المؤمنين. سوف تحارب فيرونيكا شريكةُ المسيح بالفداء جهنم وتغتصب منها ألوف وألوف من الضحايا؛ فالشيطان، هذا الروح القوي الذي يؤثر على المادة كما تستطيع نفسنا أن تؤثر على جسدنا، قد اتّخذ هذه المظاهر البشرية ليدمّر مسبقاً عدوّته اللدودة.
سوف نصف، فيما بعد، هذا الصراع الهائل بين فيرونيكا والشياطين؛ فلنقل الآن إن الحرب قد بدأت هائلة، وان الضحية المكفّرة كانت تتألّم من جهنم أكثر مما تتألّم من البشر.
كانت تبكي طويلاً خلال الليل لكن الدموع لم تكن لتطفئ حرارتها… تتجرب فتقبّل ثوبها وجدران صومعتها. تتسبّب بنيلها الأوامر لتعتاد على الطاعة، تقوم بدور الخادمة وتسرع إلى أخواتها، تسرع إلى العمل: تنقل مراراً متعددة أوعية الماء إلى المستوصف، على طول السلّم الصاعد دون أن تهتمّ لرجليها الطريئتين اللتين تورّمتا وتسلّختا وأخذتا تنزفان. وإذا لم تمت من التعب فلأن الله حفظها لصلب الجلجلة الكبير.
ليست فقط عدوّة ذاتها، بل تحترق أيضاً حباً بذاك الذي جعلها عروسة له. تقضي الليل باكية لا على ذاتها بل عليه. تبكي عليه لأن الخطأة لا يزالون يهزأون به ويحتقرونه ويسمّرونه على الصليب. إنها تحب، ولكن ليس بمقدار ما تريد، فأوضحت لأمّها المعلّمة خوفها من أن يحب الآخرين يسوع أكثر منها. آه! لا بدّ أنها سعيدة لأن رفيقاتها تشتعلن حباً، لكنها تريد ألَّا يكون حبّها أقل منهنّ.
ستعزيها رؤيا. ظهر لها يسوع من خلالها كما ظهر لها عند دخولها، وسألها الأسئلة إياها: «ماذا تريدين؟» – «حبّك يا رب – هذا ما أريده». «ولما حبّي؟»، «لأحبّك بالمقابل بالحب عينه الذي أحببتني به أنت». فاستُجيب طلب هذا الساروفيم الأرضي. فأشعل لهيب قوي في قلبها، فقفز في صدرها. إنه حب ملاطفة: فكانت ترتاح بلذة في الفكر الإلهي؛ إنه حب خيِّر: إنها تريد النفوس، نفوساً لتخرجها من الخطيئة، لتقتلعها من الجحيم لتعطيها إلى ربّها. كم مرة ردّدت: «يا إلهي! النفوس! أطلب إليك النفوس». وكان صوت يجاوبها: «اشتريها بأموال العذاب». فمدّت فيرونيكا ذراعيها، وأشارت إلى رجليها ويديها وقلبها قائلة: «يا رب اشتريتها، أنا ذبيحتك، إصلبني!».
وقد قدّمت الذبيحة نفسها لهذا الصلب يوم لبس الثوب: قُبلت الذبيحة للصلب، وتكرّست له يوم النذر الاحتفالي في أول تشرين الثاني 1678، فأكملت بذلك الابتداء الذي اتّسم بأفراح عدة، وبكثير من الصراع وكثير من الحب.
تنذر النفس احتفالياً، وإلى الأبد، تحت نظر الكنيسة وبركتها، فتكفر بكل الخيرات الخارجية، وبِمَلذَّات الحواس، وبكل الميول والإرادة الذاتية، وحتى بذاتها. كان لنذر فيرونيكا طابع مؤثر، وقد وهبت الضحية حياتها لحب الله المضحّي ليأخذها، ودَمَهَا ليشربه. لذلك نرى ان المضحّي سَيَمنَحُ الضحيّةَ المقبولة والمكرّسة لحبّه مساميرَ جسده وآلام قلبه.
واحتفلت الناذرة مدى السنين بهذا العمل العظيم واليوم العظيم. والسماء كلها شاركت بالعيد. فأخذ القديسون يسرعون والملائكة ينشدون، ويسوع ومريم يظهران، والثالوث يكشف ذاته. وقدّم ابن الله لأمّه طرحة العرائس المكرّسات السوداء لكي تُلبسها للقديسة. فتسلّمت هذه القديسة في أول تشرين الثاني سنة 1702 طرحة عجائبية لم تزل محفوظة في دير «شيتا دي كاستللو»، ودُعيت لتضيف على اسمها الرهباني فتصبح: «فيرونيكا يسوع ومريم»، ليسوع المصلوب ومريم العطوفة. فعلى الضحية أن تقاسي آلام الفادي وعذابات شريكة الفداء.
قُدمت الضحية، وقُبلت. وقد تمّت الاستعدادات. فلنحضر مشاهد الآلام المرعبة.