بعض أعمال ومشاغبات الطفلة فيرونيكا في فترة طفولتها ومراهقتها
الفصل الثالث – زينة الضحية
إن الأقدمين يزيّنون الضحية قبل تقدمتها، وهكذا يزيّن الله ذبائحه. ولقد فاقت زينة فيرونيكا كل غنى. لقد أغدق الله على فيرونيكا الخيرات للمقام الرفيع. فإنها في مركاتللو، كانت في أكثر من يُسر ورخاء، وفي قصر الدوق، كان الغنى. ستروي فيرونيكا فيما بعد بأن القصر كان ملئياً بالخدّام والخادمات.
لقد خصّها الله بكامل المزايا الجسدية التي يعبدها العالم: ملامحها كانت جميلة ونبيلة، بشرتها بيضاء، وجنتاها ملوّنتان، عيناها سوداوان حيويتان، شخصيّتها معبّرة وحيوية، مشيتها أنيقة بطبيعتها، تصرّفاتها لبقة. وقد اتفق معاصروها على القول بأنها كانت ذات جمال نادر النوعية.
وأضاف هؤلاء المعاصرون بأنها ذات روحانية فذة أيضاً. فجمعت الى جمال الجسد جمال الفكر. ذكاؤها كان ثاقباً وحيوياً. ذاكرتها قويّة وجليّة. مخيّلتها أهل لكل إبداع، ولكل إدراك، كما تشهد بذلك يومياتها. هل هي متعلّمة؟ يُحتمل أن مُدرّسة عُيّنت لها في البيت لبعض الوقت، ولكننا لا نرى بأنها كانت تتردّد الى المدرسة. أهمل أبوها الذي عشقها وأراد أن تبقى قربه قرّة لعينه وفرحاً لقلبه، وبسبب أنانيّته، أن يُثقّفها مع كونه قادراً على توفير ذلك لها في أحسن المعاهد، وهي ستقول يوماً: «أرادني دائماً قربه».
صفاتها الأخلاقية كانت أيضاً ملفتة للنظر؛ فهي ذات حيوية خارقة، تعمل في ساعة واحدة عمل يوم كامل؛ وهي ذات إحساس مرهف، كانت تنفر أولاً من الآلام ثم تعود وتجابهها بشجاعة. لقد كانت صاحبة إرادة حازمة لا تُقهر، وكان يجب على كل الأمور أن تخضع لنزواتها الطفولية. وإذا كانت أخواتها منكبّات على العمل بنشاط، كنّ ملزمات أن يتركن التطريز والتخريم بإشارة صغيرة من أورسولا ويسرعن حالاً ليساعدنها في بناء المذابح.
كانت الطفلة فيرونيكا تجمع أمام البيت الأولاد الفقراء من مثل سنّها وتوزّع عليهم الحسنات شرط أن يتلوا على مسمعيها «السلام الملائكي». ذات مرة تأخر أحدهم في تلاوة الصلاة فوبّخته. وإن خادمة تلفّظت مرة بكلمة غير مناسبة، فصفعتها. وألزمت العائلة بطردها فوراً. وأرادت ارتداد فاخوري من الجوار يُقال عنه إنه كافر، لكن كيف؟ لقد علّمتها القراءات أن الامتحان هو رحمة إلهية فلم تتردّد، واستعملت طريقة قاسية ناجمة عن طبيعتها، إذ اندفعت نحو الأواني البريئة التي كانت تُجفّف في الشمس، وقذفتها برجلها وبيدها، فانقلبت تلك الأواني واستحالت تراباً، ثم شرحت بكل جرأة الدافع لعملها. ما كان موقف الفاخوري؟ فقد تعجّب لهذا الاندفاع واهتدى.
كانت قد تعلّمت لعب السيف، فاستعملت فنّها هذا لتجرح به معلّمها في الظروف التالية: معلّم المبارزة هذا كان ابن عمّها وقد دعي الى حفلة ساهرة فيها خطورة على فضيلته، ففكّرت في وجوب حمايته من ذاته، فدعته للمبارزة. وكلاعبة ذكية راحت تحسب ضرباتها. فجرحته جرحاً خفيفاً لكنه كافٍ ليجعله يخلد الى الفراش بدلاً من الذهاب الى الحفلة الراقصة.
السؤال هو: لماذا تعلّمت الطفلة فيرونيكا ذات التسع سنوات المبارزة؟ ولماذا تقارع بالسيف هكذا؟ والجواب هو: إن صوتاً سماوياً ألزمها أن تتهيّأ للحرب، فلم تفهم أنّ الحرب هي ضد شياطين جهنّم، بل اعتقدت أنها ضد الأتراك الذين يهدّدون المسيحية، فأقسمت كصليبية حقيقية بأن تدافع عن الكنيسة ووطنها الأم.
وامتزجت لدى هذه المخلوقة الرفيعة المستوى حيوية ناشطة وطيبة صافية… وعندما كانت تظهر الأخوات المتسوّلات على العتبة، كانت أورسولا تتصرّف وكأنها تريد أن تُفرغ الصندوق وتعطيهن البيت كله. وغالباً ما كانت تفرض على نفسها حرمان ذاتها من المأكل لتسعف المعوزين، وكانت تفرض مثل هذا على العائلة. ويشهد على ذلك هذا الحدث: كانت عائلة جولياني تنتظر وصول أقارب أعزّاء عليهم، وإكراماً لهم أحضر قالب كبير من الحلوى. فما كان منها، وضميرها مرتاح، إلا أن قطّعته الى ألف قطعة لكي لا يعود لائقاً بأن يُقدّم، فتمتّع به أحبّاؤها الفقراء.
إذاً لديها كل شيء: غنى، جمال، ذكاء، قوة شخصية، ولطافة. كل صفاتها كانت سامية ومتساوية. لا شيء غير متناسق في هذه المخلوقة الكاملة الصفات. فلديها الاعتدال والتناسق التام. ولئن كانت في في صغرها ثمرة فجّة، لكن هذه الثمرة ستنضج سريعاً وتصبح شهيّة ولذيذة. كانت عكس الذين هم غير طبيعيين أو عصبيين أو المصابين بالصرع. فقد قال فيها بإعجاب سيادة المطران «أوستاشي» الذي عايشها طويلاً: «هذه المرأة تستطيع أن تدير شؤون امبراطورية».
كان لها كل شيء: وهذا هو الخطر بالذات. فإن جاءها صوت من السماء يأمرها بالمقاومة فإنما لتقاوم هذا العالم الذي كانت معبودته، والذي كان سيجعل منها فريسته. لقد كان أبوها فخوراً بها، لا بل مجنوناً بها، فأراد أن يضيف الى زينة الطبيعة زينة أخرى، فراح يبهرجها كملكة ويأخذها الى أعظم صالونات المدينة، ويدعو الى بيته الشبيبة المخملية. ولم تكن هذه الحفلات سوى أعياد وبهجة تظهر فيها ابنته بدور الأميرة. راح الفرسان والنبلاء يتوافدون، يتزاحمون ويتنافسون حولها، لكن فرنسوا جولياني كان يريد الاحتفاظ بها عروساً للكونت «أنجلو دي فادو».
كانت صورة هذا الكونت في كل العيون، واسمه على كل شفة، وشعلته في كل القلوب. ولكن أورسولا كانت تعرف وترى بأن الخطر كبير.
ها قد أضحت حسّاسة جداً تجاه مغريات الزينة، وحيويّتها الطبيعية تجد غذاء في هذه الحركة الدائمة. وكانت قد طلبت الى أبيها أن يصحبها الى حفلة تنكّرية، فتنكّرت بهيئة رجل. وراحت البطاقات اللطيفة والعروض المغرية ترفرف حولها كالعصافير في قفص كبير. وإحدى بنات عمّها، المغرمة بها أثناء تلك الحفلة، راحت توسوس لها بأسرار مقلقة.
أخذت أورسولا تدخل في طور المراهقة، وهي تجهل أمور الحياة. فهل خطأت؟ فالرب أعلن لها ذات يوم بوضوح، أن خطيئتها لم تكن يوماً خطيرة، إنما أضحت الأصوات السماوية بعيدة وصورة الله تضاءلت في نفسها، فجرحت الحبّ اللامتناهي.
وأخواتها التقيّات ماذا فعلن؟ لا يُعبأ في قصر جولياني بهن، لا بالنسبة للوالد ولا الغرباء. هل يسهرن على الأقل على فضيلة هذه الأخيرة؟ عندما كانت أورسولا صغيرة كانت أخواتها يعشن في التأمّل والإهتمام بها، معجبات حتى بأخطائها. وعندما كبرت رُحن يُدلّلنها أكثر أيضاً. وعندما كنّ يرينها بين دفق هذه الحفاوة، لم يخفن على المستقبل، لأنهن يذكرن الآيات الإلهية التي كانت قد طبعت طفولتها، فكُنّ مقتنعات بأن الله يحفظها.
إنّ العالم ينازع الله عليها. فمن يا ترى سيفوز بها، العالم أم الله؟
إن الله قد زيّنها وتركها تتزيّن ليكون ذبح الضحيّة أكثر عظمة له وأكثر شفاء للعالم.
إنّ الله سينالها، وسنشهد تقدمة الضحيّة.