بعد 33 يوماً من نزاع القديسة فيرونيكا، ماذا كانت كلماتها الأخيرة وكيف كان انتقالها إلى السماء؟
أعظم عزاء كانت تحصل عليه القديسة فيرونيكا في أيام نزاعها الثلاث والثلاثين، كان عند تناولها القربان المقدّس يوميّاً حسب وعد الأسقف لها. في هذه المناسبات كان قلبها يضطرم ويتوهّج حبّاً. مجرّد رؤية الصليب، الذي اعتادت أن تدعوه حارس باب القلب، والذي كانت تبقيه دائماً بقربها، كان يقوى على التخفيف عنها وسط آلامها الأكثر شدّة.
برهنت على ذلك يوماً، حين نادت على بعض الراهبات الصغار سنّاً قائلة: “تعالوا، الحبّ كشف عن ذاته هنا، هذا هو سبب معاناتي أخبروا ذلك للجميع”. حينئذٍ طلبت منهن أن يرتّلوا نشيد تجسّد الكلمة الإلهية، التي أثّرت فيها بعمق، لدرجة أنها بكت بحريّة. عندما سُئلت عن سبب بكائها أجابت بكل طاقة الحبّ: “من منّا لا يبكي عند تفكيره بمثل هذا الحبّ”.
كانت تبذل جهداً كبيراً للقيام بالفضائل اللاهوتية في الإستسلام للمشيئة الإلهية، والتواضع العميق، التي هي إنعاش حقيقي للنفس. كان طبيبها يزورها عدة مرات في اليوم، قال في شهادته أنه دُهش يوما من جوابها، عندما شاهدها مرّة متعبة أكثر من المعتاد، فشجّعها على أن توحّد آلامها مع آلام الرب يسوع. أجابته بتواضع عظيم: “من أجل الحصول على استحقاق بواسطة المعاناة، يجب أن يكون مصحوباً بالفضائل، التي أنا معدمة منها. مع ذلك، أنا على استعداد تام لتحمّل كل ذلك. وسأكون مسرورة أن أعاني أكثر، إن كانت تلك مشيئة ربّي”.
هكذا مرّت الثلاثين يوماً من مرضها، لدرجة أنها حصلت على القربان المقدس للمشرفين على الموت، ثلاث مرّات، ونالت مسحة المرضى بحسب طلبها.
خلال الأيام الثلاثة الأخيرة من حياتها، كانت تبدو أنها تعيش حالة انخطاف دائم. عيناها مغلقة غالباً ولا حركة فيها. لم تقل شيئاً عن ذلك، لكن بدا أنها في معظم الوقت في حضرة الرب يسوع، عريسها الإلهي، ومريم العذراء، محاميتها القويّة، والقديسين الذين كانت شديدة التعبّد لهم، خاصّة القديس فرنسيس والقديسة كلارا.
أخيراً كان واضحاً أن رحيلها بات قريباً، وللمرّة الرابعة نالت الزاد الأخير. لكن قبل أن تُمنح ذلك، بالرغم من أن صوتها كان ضعيفاً جداً لدرجة خافت أن لا يتم سماعها، طلبت من المعرّف أن يطلب الغفران باسمها من جميع الراهبات والموجودين حولها، عن المثال السيّء الذي أعطته لهم، وكذلك عن كل الأخطاء التي ارتكبتها خلال رئاستها الدير.
الأخت كريستينا إليوساري لم تكن حاضرة لأنها كانت مستلقية في سريرها بسبب المرض لذلك طلبت فيرونيكا أن يتم نقل رسالتها إليها. بعد ذلك بذلت جهداً عظيماً من أجل أن توصي بناتها الروحيين بأهميّة الوفاء لوصايا الله والكنيسة، وأيضاً لقوانين ودستور لدير، والحفاظ على السلام والمحبة المتبادلة فيما بينهن. أعطت كل منهن صليبها لتقبيله، وقالت، “لا تشيحوا نظركنّ أبداً عن الحب اللامحدود الذي أظهره لنا”.
في صباح الثامن من يوليو تموز، الذي كان اليوم الأخير لها على الأرض، حصلت على زيارة من الأسقف الذي أعاد منحها مسحة المرضى. أرفقتها قديستنا العظيمة بأفعال الإيمان والرجاء والإحسان. بعدها طلبت من نيافته بركته الرعوية، وأيضاً البركة البابوية للحظة الإحتضار، فمنحها كلتاهما وسط دموع الحاضرين. بعدها أكمل معرّفها وأعطاها بركة النظام الرهباني، التي من الوردية المقدّسة ومن السبع أحزان. بعد ذلك بقيت هادئة، ولم تسترخِ قبضة يدها اليمنى من التمسّك بصورة يسوعها المصلوب، التي سكبت نحوه عواطفها بصمت. نحو منتصف الليل، فقدت القدرة على الكلام، وبدأ عذاب نزاعها الأخير. أقام معرّفها رتبة المنازعين المعتادة، تصاحبه صلوات جميع الراهبات اللواتي لم يتركن فيرونيكا الليل بأسره.
حاولت أن تنضمّ إليهن في الصلاة بالرغم من فقدها مقدرتها على الكلام، فكانت ترافقهن بالتماساتها الداخلية خلال معاناتها الأخيرة التي استمرّت ثلاث ساعات، مثل الفادي الإلهي. مع انبلاج الصباح، قال معرّفها الذي أدرك أنه لم يبقَ لها الكثير من الوقت: “تشجّعي، أيتها الأخت فيرونيكا، فإنّك قريبة جدّاً من ذلك الذي ترجوه نفسك بشدّة”. عند سماعها هذه الكلمات، شعرت بسعادة لا توصف، وبدأت تنظر بثبات الى معرّفها. أمّا هو فواصل تلاوة الصلوات دون التفكير لماذا القديسة المنازعة أبقت نظرها عليه.
في النهاية أناره الله فتذكّر أن فيرونيكا قالت له في كثير من الأحيان بأنها لن ترغب أن ترحل عن العالم، حتى تأمرها الطاعة المقدّسة، والتي تطلبها الآن بنظراتها الجادّة. فاقترب منها وقال لها:
“أيتها الأخت فيرونيكا، إن كانت إرادة الله أنّه يجب عليك الذهاب للتمتّع به، وبما أنه يسرّ جلاله الإلهي أن لا تعبري دون إذن ممثّله، فأنا أمنحك إيّاه”.
في الحال أخفضت عينيها عربون استسلام وخضوع. ومن ثمّ جالت بنظرها على الراهبات بناتها للبركة الأخيرة وأحنت رأسها مثل عريسها المصلوب، وأطلقت تنهدّ أخير وطارت روحها المباركة في رحلتها صوب حضن حبيبها. حصل ذلك الساعة 7:00 من صباح يوم الجمعة، 9 يوليو تموز، 1727. في السنة السابعة والستين من عمرها، وكانت قد أمضت خمسين عاماً في الحياة الرهبانية، وأحد عشر عاماً في رئاسة الدير.
لا يمكن وصف الإضطراب التي تلى انتقالها، ليس فقط في الدير، ولكن في المدينة كلّها. ولا التكريم العظيم الذي رافق جنازتها. حتى في موتها أعطى مظهرها الخارجي علامات عن الهدايا السماوية التي أغنت وجمّلت روحها.
كانت فيرونيكا متوسطة الطول وبشرتها فاتحة. وجهها بيضاوي جميل، على الرغم من وجود ندبة صغيرة على يمين شفّتها السفلى. لون عينيها فاتح وتشعّ بهجة.
رغم كل الأصوام والتكفير لم تكن هزيلة، بلا شك كانت تلك نعمة خاصة من الله. تجلّت في أخلاق فيرونيكا، الكياسة والتواضع والمحافظة الدينية والأدبية. كانت لها ابتسامة حلوة وهادئة. وجهها كان مرآة جميلة عن حياتها، وسحرها الخارجي صورة عن جمالها الداخلي. تشعّ لطفاً وابتساماتها أضفت سحراً على كلماتها، في حين يُشير بريق عينيها على صفاء روحها، جبهتها بيضاء كالعاج، كان مظهر القديسة فيرونيكا بأكمله رمزاً عن حياتها.