القديسة فيرونيكا تشاهد وتعيش محاكمة يسوع، حمله للصليب، وتكليله بالشوك
الفصل الثاني
مشهد المحاكمة
في دار الولاية جُلد يسوع وكُلّل بالشوك وحُمِّل الصليب. كانت فيرونيكا مرآة حية عن هذه المشاهد، أو بالأحرى كانت تعيشها. ولما كانت طفلةً، صنعت لنفسها مجلدة بيديها الصغيرتين اللتين يحرّكهما الحب لتجلد بها ذاتها بيد واهية وبلا شفقة، فاقتاد صوت الجلد أمّها إليها. فلما أضحت راهبة راحت تلتهب بحب أشدّ حرارة مما كانت عليه وهي صغيرة، فأخذت تجلد نفسها كل يوم. وفي بعض الأيام تجلد ذاتها ساعات كاملة بقساوة لم يُسمع بها، لدرجة أنّ القماش الذي تستعمله لمسح جسدها الممزق تغمَّس كلياً بالدم. وهاكم جلد سري بيد غير منظورة تجلدها. فغالباً ما كان يظهر لها يسوع، مربوطاً إلى عمود الجلد. وفي الوقت ذاته ابتدأ ذراعاها وخاصرتاها وكل جسدها بالارتجاف تحت مجالد الجلّادين غير المنظورين القاسية. سنصف هذا المشهد في فصل آخر، فهو مشهد مليء بالرعب أخبره شهود عيان امتلأت عيونهم وقلوبهم بالهلع.
هل بدأ يظهر لها المخلّص مكلّلاً بالشوك، منذ الرابع من نيسان 1694 فقط، كما قيل؟ لا، إنما بدأ هذا الظهور منذ 1681 – وكان لها من العمر عشرون سنة – فكانت تقول له: «يا رب، أعطني إكليل الشوك هذا لكي تصبح الجراح التي أُصابُ بها أفواهاً تصرخ بحبّي لك». أصبح إكليل الشوك على جبهتها، وانغرس الشوك في الصدغ وفي النقرة والدماغ، في الأذنين والعينين، فوقعت على الأرض كأنها مائتة. فأنهضها الرب قائلاً: «ستشعرين طيلة حياتك تقريباً، بهذه الأشواك» فوقعت ثانية وثالثة؛ ولكن أخيراً، وقفت بأعجوبة على رجليها. انتفخ رأسها انتفاخاً مفرطاً، وخرجت عيناها من محجريهما، فحاولت عبثاً إخفاء أوجاعها. استعدوا الطبيب الذي طلب جرّاحاً، واكتشف أن هناك نوعاً من الأشواك تحت الجلد، وقد أصابت شبكة العين، فوصف لها أدوية فعّالة، فعولِجَت بنار في الرأس، فظهرت فيه حفرة كبرت على مرأى العين، فاختلط الرأس مع الكتف؛ فأُجري لها حالاً «كيّ» في العنق وآخر في الساق، فأخذت هذه الأجزاء تنتفخ كالرأس وتمزّق عضلاتها وأعصابها، فوضع المرهم حالاً على الجروح. أصبح الدماغ تارة أتوناً ملتهباً وطوراً براداً مثلجاً، فوُضِع لها فتيل حول العنق لاستخراج «القيح». في حين راح المبضع يشرط وينقر في اللحم الحي.
أخيراً رفع الأطبّاء أيديهم عجزاً، فإن أدويتهم لم تنفع إلا في تعميق الألم. ألم ليس له من تفسير طبيعي.
استمرّ العلاج وقتاً غير قليل، ولم تستطع المريضة أن تنام أثناء ذلك، لكون أعصابها متوترة جداً، فبدا لها وكأنها بكليتها ليست سوى جرح مفتوح. وفي حين كانت الغروز تخترقها والاطبّاء والجرّاحون يعذبونها بشدة، كانت شفتاها تفترّانِ ابتساماً، وعيناها تلمعان فرحاً، وقلبها يتهلّل ويرتّل. فالأرض لم تعرض مشهداً أجمل من هذا المشهد إلّا ربما مشهد حمل الصليب.
فالصليب، منذ زمن طويل، يظهر لها، كان ضخماً كئيباً مكلّلاً بصلبان صغيرة تتزايد إلى ما لا نهاية. وقد بدا لها الصليب هذه المرة على كتف المخلص، وهو يمشي منحنياً بشدة وحزيناً جداً. فسألها: «ما تَتَمَنَّيْنَ يا فيرونيكا؟» فأجابت: «صليبك يا سيدي، أريد أن أحمله بدلًا عنك». وإذا بالصليب على كتفها، فوجدته ثقيلاً جداً! فوقعت، وعادت ووقعت تحت هذا الثقل. لكن يسوع أنهضها، فغاص الصليب في كتفها حتى مزّق اللحم وبان العظم مجرّحاً. كم ان الصليب ثقيل ومؤلم! ومع ذلك كانت تمشي؛ تمشي منحنية وهي تلهث. العذاب هائل. وقد لوحظ بعد موتها ان لحماً جديداً حل مكان اللحم الميت، ولوحظ أيضاً أن الذراع، بسبب التواءٍ مخيف في الكتف، كانت تتحرّك بأعجوبة.
كم عّذَّبْتِ الفادي يا مجالد الخطيئة ويا أشواك الخطيئة ويا صليب الخطيئة! بتنا الآن ندرج ذلك.
ستتجدد عذابات الجلد والتكليل بالشوك وحمل الصليب ألوف المرّات وسوف نراها من جديد. أما الآن فلنصعد إلى الجلجلة.