فيرونيكا تشارك يسوع بشرب كأس المرارة في الجتسمانية

1٬875

القسم الثاني
مشاهِد الآلام

الفصل الأول
مشهد الجتسمانية

رأى يسوع، كفيل البشرية الخاطئة، في الجتسمانية خطايانا. ورأى القصاص المحفوظ للخطأة كما رأى العذاب المرموز إليه بكأس المرارة، والمحفوظ للفادي؛ فأخذ هذه الكأس وشربها. ولكن ألقاه الخوف والاشمئزاز والحزن أرضاً، فاستحال عرقه دماً.

كذلك سترى الضحية كل خطايا البشر وستدرك خبثها. سترى عذابات جهنم حيث، من جرّاء الرعب، استقرّ فكرها. سترى من خلال رؤى خاصة وبعين أكثر إحساساً من الإنجيليين أنفسهم، كما يبدو، عذاب جسد ونفس الإله – الإنسان المخلّص. سترى فظائع العذابات التي تنتظرها هي نفسها. ستذرف هي أيضاً دموعاً من دم، وستهطل دموع دم حقيقية من أجفانها وتصبغ وشاحها وطرحتها. ستعاني هي أيضاً نزاع النفس الأكثر ألماً من غمرات الموت. لكننا لن نتأمّل هنا سوى سرّ الكأس.

كأس تظهر أمام عينيها، تحملها أصابع غير منظورة. كانت تراها وعيناها مفتوحتان كما كانت تراها وعيناها مغمضتان، فأدركت أنها لها وانها تحتوي كل عذابات الخليقة، وستنسكب في كيانها كله حتى الثمالة. تغلي وتفور، فأخذ منها الخوف كل مأخذ. قد قُدِّمَت الكأس هذه المرة، بيد يسوع نفسه وجراحاتُه ظاهرة ومنفتحة، فدعاها بصوت صادر عن كل جراحاته لتشربها. قد قُدِّمت الكأس بيد مريم وفي يوم عيد انتقالها السعيد، فخافت، ولكنها تحب. «سأشرب الكأس حتى آخر نقطة».

فاضت الكأس المترعة؛ فاجتاحتها مرارة غير معقولة انتشرت على لسانها الذي امتلأ بلحظة ما يشبه قشور السمك، فحاولت الراهبات كشطه ولكن بلا فائدة. اجتاحت المرارة حتى الماء الذي تشربه. فأصابها عطش مذيب، حتى كأنه يلزمها جميع محيطات العالم لتطفئه. مرارة تجرّعتها ودخلت عمق أعماقها. اجتاحت المرارة حتى الطعام الذي تتناوله، فتوقف الأكل في حنجرتها، مما جعلها تتشنّج تشنّجاً مرعباً. وعندما يقرع جرس المائدة كانت تبكي وتقول:  «ماذا يفيدني النزول إلى المائدة؟» فبقيت أياماً وأياماً دون أن تذوق شيئاً، مما أدهش الراهبات اللواتي رحن يتساءلن كيف تعيش. وهل هذا من ضروب الخيال؟ فذاقت إحداهن خبزها وقذفته بسرعة إذ إن طعمه كالأفسنتين. واجتاحت المرارة الهواء الذي تشمّه، فانتابها الغثيان مراراً عديدة، وتآكلتها الحمَّى، حتى ظنّ أنها ستموت.

استُدعي الأطبّاء فعالجوا المرارة بالمرارة. ذهبت أدويتهم سدى ولم تنجح إلا بجعل المعدة تتمغّص من الألم، دون أن تُبعد الكأس التي كانت تسكب وتسكب النقاط الجهنمية، فقالت: «إن كل نقطة تحرقني ولا أرى ناراً، كل نقطة تخترقني ولا أرى حربة، كل نقطة تلقي على أداة عذاب جديدة وموتاً جديداً». وبقيت عروس عريس الدم تردّد: «كأسك يا رب، سأشرب كأسك».

اغفر يا رب! إننا ندرك من هذا السرّ كم ان الخطيئة مرّة لديك، لأنها كأسك تلك التي تقدمها إلى «الضحية».

وكانت صلبان تخرج من الكأس. فها هو صليب قد انغرس في قلبها علامة امتلاك أكبر لعريس الدم. وكإعلان عن الصليب الذي سينغرس في حياتها. وإذا كان الصليب مؤلماً جداً، فإنه يؤلّهها! فقد كان يُشعل في أحشاء فيرونيكا لهيب الحب، لهيباً واسعاً، من ذاك اللهيب المجتاح الذي يوقف عمليات النفس، ويدمّر كل ما ليس بحب، لكي يملك الحب وحده ويحوّل كل شيء إلى حب. وأخذ القلب، مسكن الصليب، يثور ويثور ويختلج؛ فكيف ذلك؟ فالراهبات اللواتي يسمعنها لا يجدن تفسيراً آخر: إنها ضربات على القلب. وراحت الضربات تُدَوّي في سكون الصومعة، وفي الكابيلّا خلال صلاة الفرض، كما لو أن يدين مسلحتين بعصا تضربان بلا شفقة على ذلك الصدر الذي يكاد يتحطم. تصدر هذه الضربات عن العذاب الحاضر وتعلن عن العذابات المستقبلية. كانت فيرونيكا السعيدة، عندما تهدأ الضربات، تسمع في أعماق قلبها الذي أخذ يتسع بقدر السماء، أنغاماً ملائكية. وكأن الملائكة، تحت أنظارها، يجمعون في وعاء من ذهب شراب المرارة ليجعلوها ترى ثمن العذاب فيضاعفوا شجاعتها لبلوغ أعلى مستوى الاستشهاد. شكرا لك يا إلهي، شكراً لك لأجل قديستنا! ففي اعماق البستان المظلم ساعدتها ملائكتك في نزاعها الدموي.

ولم تكن الجتسمانية سوى مقدمة، إنما هاكم قاعة المحاكمة.

مواضيع ذات صلة