هل تنبأت القديسة فيرونيكا عن موعد انتقالها وكيف بدأت جلجلة نزاعها الرهيب؟
الإنعامات الغير اعتيادية التي رافقت مرض القديسة فيرونيكا الأخير قبل انتقالها المقدّس
إكليل الشوك، الجراحات المقدّسة، والإنطباعات المؤلمة في القلب، تجدّدت عدة مرات خلال السنوات الثلاثين الأخيرة من حياة القديسة فيرونيكا، كما سبق وذكرنا. يمكن القول تقريباً، أن استرسالها الدائم في حبّ الله، الى جانب معاناتها الكثيرة التي سرّ الرب في إخضاعها لها، مع التكفير الشديد الذي فرضته طوعاً على نفسها كان لا مفرّ من أن يؤثّر ويضعف صحّتها، وأن يتسبّب في نهاية الأمر في موتها.
خضعت للكثير من العمليّات والعلاجات من فترة الى أخرى، دون أن يتوصّل الأطبّاء الى علاج حالتها، لكنّها كانت تُشفى منها بطريقة غير متوقّعة وعجائبية. لذا كان جمهور الدير يؤمن أن القديسة فيرونيكا تعيش فقط بأعجوبة.
الأب أوبالدو أنطونيو كان الوحيد الذي ذكر في يومياته وصفاً لهذه الأمراض المستعصية. وقد فعل ذلك من أجل إرشاد نفسه، منذ عام 1702 – 1707. في سرده للأحداث، ذكر ما لا يقل عن ثلاثة عشر مناسبة التي وصل مرض فيرونيكا الى وضع يشكّل خطراً على حياتها.
كان الأب كابيلليتي يساعدها بصفته معرّف راهبات الدير. طوال استمرار هذه الأمراض كانت فيرونيكا تروّض نفسها قائلة أنها على وشك أن تُعتق من عبء الجسد الفاني، حتى تبدأ رحلتها صوب الإتّحاد بعريسها الإلهي. في كثير من الأحيان تلقّت في قلبها دعوات حبّ من الربّ الإله، وبدا أنها في طريقها إلى الإتّحاد معه. لكن، مجدّداً، حين لم يكن متوقّعاً، يختفي هذا الإحتمال من أمامها.
أخيراً جاء الوقت الذي مُنحت فيه نعمة معرفة زمن موتها بوضوح لا شك فيه. كان ذلك في وقت مبكّر من عام 1694، كما لمّحت لمرشدها، لا يزال أمامها 33 سنة من الحياة على الأرض. أثبت هذا الحدث، أن العدد يحدّد عدد السنين المتبقّية لها حتى وفاتها، وربما يلمّح أيضاً الى 33 يوماً لمرضها الأخير قبل انتقالها. أعلنت أيضاً أنها في تلك الأيام الأخيرة من حياتها سوف تخضع الى مطهر ثلاثي: من المخلوقات، من الطاعة، ومن الشيطان. (سنأتي على ذكر تفاصيله في مقال لاحق)
في السنة التي سبقت وفاتها، عيّنت بواسطة سلطتها كرئيسة الدير، الأخت مريم المجدلية بوسكاني مسؤولة عن الكنيسة الداخلية: كابيلا الوردية المقدّسة. حين سلّمتها القديسة فيرونيكا المسؤولية قالت لها بصراحة: “هذه هي المرّة الأخيرة التي أتنازل فيها عن هذه الوظائف”. فسألتها الراهبة أغنس: “هل ستموتين قريباً، أيتها الأمّ الرئيسة؟” فابتسمت لها بموافقة وخرجت.
أيضاً في العام الذي سبق موتها، أتت إليها الراهبة غابرييلا بروزي وركعت أمامها كما هو المعتاد حين تعترف راهبة بخطأ ارتكبته أمام الأمّ الرئيسة فقالت فيرونيكا: “هيّا أيّتها الأخت غابرييلا، دعينا نُّعِد أنفسنا. فلم يتبقّى لنا الكثير من العيش” في الحقيقة توفّت القديسة في تموز التالي ولحقت بها الأخت غابرييلا بعد ثلاثة أشهر تقريباً.
تكلّمت فيرونيكا بصراحة ووضوح أكبر الى الراهبة مريم المجدلية بوسكاني في عشيّة مرضها الأخير. كان الكاهن المرشد قد أمرها بمصارحة القديسة ببعض المحن والتجارب التي كانت تعانيها، لكن الراهبة عزمت على أن تنتظر الى أن تتحسّن صحّة فيرونيكا. لكن بعد وقت قصير جاءت فيرونيكا الى غرفتها وقالت لها: “علينا أن نؤدّي الطاعة في هذا المساء، إذ لا نعلم إن كنّا سنحصل على فرصة أخرى بعد اليوم”.
في الصباح التالي 6 حزيران 1727، خلال ثمانية أيام العنصرة، ويوم المناولة في الدير، كانت القديسة فيرونيكا تعلم مسبقاً بالذي مزمع أن يحدث، تجلّى على وجهها قلق غير معتاد بسبب التحضير للمراسيم المقدّسة التي يجب أن تتم دون تأخير. كانت قد غادرت كرسي الإعتراف وملامحها متوّهجة أكثر من المعتاد، عندما لاحظت الراهبة ماري جوانا ماجيو التي أدلت بشهادتها أثناء دعوى التطويب، قالت أنّ القدّيسة طلبت منها الإسراع في إحضار واحدة الشّمع (قضيب دُهني تتوسّطه فتيلة يُستضاء بها) كانت تُستعمل لإضاءة الشموع الأربعة بالقرب من نافذة المناولة. كانت الساعة 11:00 حين تلقّت فيرونيكا القربان الأقدس، وحالاً بعد ذلك تعرّضت لسكتة دماغيّة، مما جعل جانبها الأيسر عاجزاً تماماً، لكن لم يحرمها من وعيها وقدرتها على الكلام.
أسرعت الراهبات لمساعدتها، وأجلسنها على مقعد صغير – ما زال محفوظاً في دير شيتا دي كاستيللو – مصنوع من خشب الجوز. رفعت القديسة فيرونيكا عينيها الى السماء في انخطاف، وشهدت الراهبات أنّ ملامحها كانت تشعّ سعادة حين قالت: “أذهب، أنا أذهب”، وبالتالي أدركوا أنّ السكتة الدماغية من شأنها أن تكون قاضية. بما أنهن لم يستطعن مساعدتها بواسطة العلاجات المعتادة، وضعوها على كرسي ونقلوها الى العيادة. كي لا يطيلوا معاناتها، أدخلوها الى الغرفة الأولى بالرغم من كونها مظلمة وأشبه بالسجن. وأرسلن حالاً في طلب الكاهن معرّفها، الأب رانييرو غيلفي والأسقف المونسينيور أليكسندر كوديبو، الطبيب بورديغا، والطبيب الجرّاح جينتيلي.
فوراً عند رؤيتها معرّفها، طلبت أولاً مناولتها القربان الأقدس، بالرغم من أنه لم يمر وقت طويل على تناولها، لكن الأب غيلفي أعتقد أنه من الضروري أن يرفض طلبها في الوقت الحاضر. في هذا الوقت وصل الأسقف، وفي اللحظة التي رأته بدأت تعلن بمنتهى التواضع أنها كانت الأقل جدارة في الدير، وأنها خلال الخمسين عاماً من مسيرتها الرهبانية فشلت في التجاوب مع نعمة الله، ولم تنجح في اكتساب فضيلة واحدة. ثم طلبت منه ومن جميع الحاضرين الصفح والمغفرة عن كل المتاعب التي تسبّبت بها لهم، ورجتهم أن لا يتشبّهوا بها، لأنها كانت إنسانة خاطئة.
بعد ذلك طلبت من سيادته أن يمنحها بركته في ساعة الموت، وأن يمنحها كذلك الإذن بالتناول يوميّاً خلال الفترة المتبقّية لها من حياتها. منحها الأسقف الإذن تلبية لطلبها الثاني، أما الأوّل فأرجأه الى مناسبة أخرى تكون ملائمة أكثر.
كان ذلك بداية نزاع دام 33 يوماً خضعت خلالها الى مطهر ثلاثي. سنأتي على ذكره في المقال القادم.