الأب يحاول منع فيرونيكا من الترهب لكنها تصلي عند أقدام المصلوب فيتغير كل شيء

1٬205

الفصل الرابع – تقدمة الضحية

كم ستندم قديستنا فيرونيكا جولياني على نزوات طفولتها وتشتّتها في مراهقتها بعد أن ترتدي ثوب الرهبانية! ستسكب دموع دم حقيقية. ستتذكّر، بلا انقطاع، ما تدعوه خطايا لتجعل العالم أشدّ كرهاً. تواضعها جعلها غير عادلة على ذاتها. الله كان يسهر عليها، بمعزل عن كل شيء، كان قلبها لله.

كان العالم يبدو لها تافهاً والخليقة فارغة بعد مرور الأعياد. فأضحت الألوهية تجتذبها، والمناولات كخمرة مسكرة لها، والصلاة هدوءاً سماوياً. دون أن تدري كيف، كانت تجد نفسها راكعة، غارقة في فكر الله. كانت تجهل ما تعمله، ولكنها تشعر فقط بأنها سعيدة كما لو أنها في السماء. إنها تدرك جيداً ما تريده، ألا وهو مجد إلهها. وشعرت بعودتها من انخطافاتها الأولى بنار من الغيرة تحملها. يجب أن ترتّل أخواتها معها تسابيح المجد الإلهية.

عندما سيأتي أصدقاء أبيها ستسد بعد اليوم أفواه المتملّقين وستغلق الباب بوجه العاشقين. أخذت تردّد بلهجة لا تقبل الدحض: «سأصبح راهبة». وقد غُلِب على أمر فرنسوا جولياني مع أنه لم يندهش: خسارة ابنته تبدو له أكثر مرارة من فقدانه الحياة. فراح يتملّقها ويظهر لها حزنه الأبوي، ويصف لها أفراح أمّ صبية تداعب وليدها. دخل ذات يوم الى غرفتها، وقال لها بنبرة حازمة: «يا ابنتي، بما أنك لا تسمعين نصائح الصديق فاسمعي قرار الأب. لا أريدك أن تفكّري بالرهبانية بتاتاً، وستبقين بقربي». وبما أنه مدرك تقوى ابنته، راح يضخّم صوته ويفخّم أسلوبه: «آمرك بذلك فإن أمر الأب هو أمر الله».

كانت أورسولا تسمع وهي راكعة، مقبّلة اليد الأبوية، وفي النهاية رفعت عينيها اللتين يلمع فيهما لهيب إلهي وقالت: «أنت تتكلّم عن الله يا أبي، إن الله هو سيّدنا المطلق، فقد أعارَك إياي، والآن هو يطلبني، فارهب من أن تغضب عدله؛ إني أحبّك، وعليّ أن أحبّه أكثر؛ سأذهب إليه، وبتركي إياك فإني أقودك إليه». كان فرنسوا يبكي. لقد غلبته. بناته الكبيرات قد أضحين راهبات في مسقط رأسهن، والأخيرة، الأحب إليه، تفلت من يده. فراح يحلم بقران جديد، فأوصى العم «رازي» بأولاده.

ها هن جميعاً في مركاتللو. الكبيرات ترهّبن لدى راهبات القديسة كلارا. أما أورسولا فبقيت في العالم، لأنها لا تزال صغيرة لترتدي الثوب الرهباني. فانتظاراً لذلك، نراها تتأهّب كل التأهّب لنيل هذه النعمة! متلهّفة للصلاة، لقد كلّفت خادمة لتوقظها باكراً جداً. فتسترسل بالصلاة طويلاً دون أن تدري هل هي في السماء أم على الأرض، مستغرقة في التأمّل.

شعرت ذات مرة بيد إلهية قد حملت قلبها. عمّتها كانت تصفّق لهذا الاندفاع العظيم، بعيدة عن إعاقة ابنة أخيها. أما العمّ فلديه مهمّة سريّة أخذها عن الأب: قتل بذرة الدعوة الرهبانية. فعندما أعيقت عن السير في مشروعها، اندفعت الفتاة الى أقدام المصلوب، بعينين ملتهبتين ويدين ممدودتين وتنهّدت: «يا يسوع أريد مساميرك في رِجليّ وفي يديّ، أريد إكليلك على رأسي، ومرارتك في فمي، والحربة التي طعنتك في قلبي. أنت انزل عن الصليب وأنا آخذ مكانك. آخ أتمنى أن تجعلني عروسك!»

فَعَلا الاصفرار خدّيها، والانحطاط استولى على أعضائها، حتى أصبحت حياتها مهدّدة. وقد أعلن الأطبّاء: إن الدواء الوحيد هو تلبية رغبة القلب. أعلم العم أباها، فأضحت أورسولا حرّة.

مواضيع ذات صلة