أورسولا تترهب فتحدث ثورة لدى الشبيبة والمدينة كلها

1٬765

ابنة ناظر المالية ستترهّب! هذا ما أحدث ثورة لدى شبيبة «مركاتللو» بلغت «بليزانس». من هو الذي لم يتمنى طلب يد تلك الصبية؟ من لم يحلم في أن يتقاسم الحياة مع مخلوقة بهذا الكمال؟ سعى الكثيرون لاقتحام منزلها. جيء لها بباقات الورد التي سرعان ما رمتها من النافذة. فالقرار قد اتُّخذ. قرار نهائي لا رجوع عنه. أورسولا ستصبح كبوشبة.  

هجوم آخر ينتظرها، ألا وهو هجوم جهنم التي حاولت قلب كل ميولها، فأظهرت لها استحالة ممارسة حياة التقشّف التي تريد أن تعتنقها. إذ راحت جهنم تلهب مخيّلتها وتريها وجوهاً بشرية ضاحكة أو كئيبة: لمَ الانقطاع عن ملذات الحياة؟ ولكنها جابهت العاصفة الداخلية. وهوذا اليوم الذي فيه تترك العالم!
 
ماذا إذن؟ هل تبكي؟ إنها تحب هذه الكنيسة حيث نالت العماد والتثبيت، وحيث غالباً ما رأت الطفل الإلهي. إنها تحب كنيسة «الكوردوليه» حيث تستريح جثة أمها الحبيبة. إنها تحب البيت الذي وُلدت فيه، وفيه سمعت الصوت الإلهي: «ستكونين عروسي». تحب أخواتها اللواتي ودّعتهن من وراء شبكة الدير وتركتهن باكيات. إنها تحب هؤلاء الناس، تحب هذه الأشياء. وهي تتركها الى الأبد. لندعها إذن في انفعالاتها ودموعها الصامتة.
 
ومع ذلك فهي تقول: «أنا سعيدة». وها هي تمتطي بشجاعة جواداً فتياً تواكبها جماعة أمينة مخلصة بينها الكاهنان «أمبروني» و«روسّي» مرشداها وصديقا العائلة.
 
تركاها الكاهنان وعادا بعد أن باركاها. ثم راحت تصوّب صعوداً شاقاً فوق قمة جبال «الأبينان». اخذ تشرين الأول يودّع، وراح الاصفرار يطال الأشجار المرتعشة تحت تأثير البرد والضباب الذي يغشيها. وأخيراً انقشعت الغيمة وبدا لعينيها ريف جميل فتّان يضاهي ريف «سبوليتو» و«أسيزي». إنها وادي «التيبر» الفسيح، حيث يبدو جبل الألفرنا وكأنه يختمه نحو الشمال ممتداً على مدى البصر نحو «شيتا دي كاستللو» وما وراءها. أيتها الفتاة، انظري وأشبعي عينيك بجمال الطبيعة الفتّان وبهاء النور، إذ أنك، قريباً، سوف لن ترين سوى أشجار بستان صغير محاط بجدران قاتمة.
 
هناك جمال آخر أيضاً قد أسرها بدون شك. فما هو هذا الجمال؟ إنه، على دربها: «مونت كازال» الذي بنته يدا القديس فرنسيس. هو الدير المَهيب للحواس والرائع للنفس. فكيف يتسنّى للمخلوقات البشرية التي إنما خلقت لتعيش في الهواء الطلق والنور الأخّاذ أن تعيش في هذه السجون الحجرية؟ ومع ذلك هناك أنشد الساروفيمي الأرضي لحن فرحه بعد ارتداد إخوانه اللصوص. وهناك ألّف القديس أنطونيوس البادواني عظاته المدهشة. وهناك راح القديس بوناڤنتورا يدوّن ملاحظاته حول حياة أبيه الساروفيمي! وهناك أيضاً كان يعيش إخوانه في الرهبنة: الكبوشيون الأصاغر، حرّاس المقدِس.
 
وأورسولا هل دخلت هذه المنسكة؟ هل طلبت بركة المتوحدين الذين ستصبح أختاً لهم؟ من يدري؟
 
باتت أورسولا عند صديقتها المركيزة «كوشينا دانكون» في «شيتا دي كاستللو». هل كان لها زينتها وتبرّجها؟ فعليها أن تسير حسب التقليد في زيارة أديار، كنائس، ومحسنين إلى الدير. يجب أن تسير حسب التقليد وأن تظهر بأبّهة وزينة دنيوية. إفسحوا الطريق «لعروس المسيح»! لقد راحت المركيزة، رغماً عن معارضة الطالبة، تلبسها زينتها وحلاها. في مناسبة فتح ملف التطويب، سرد شهود هذا المشهد، والانطباعات التي كوّنوها آنذاك؛ فقد خرجت «عروس المسيح»، وقد بدت لهم أكثر من كائن بشري: كان منظرها ساروفيمياً.
 
آه! يا لعذاب هذا العرض! ولكنها في مسيرتها نسيت المشاهدين وذاتها ايضاً. كانت العروس ترى العريس وقد حانت ساعة الخطبة. لم تنم تلك الليلة. فقد كانت ترى الطفل – الإله حسيّاً وراح يعلّمها معنى احتفال الغد. عند الفجر كانت واقفة، متأهبة للمثول أمام المذابح المقدسة.
 
أين هو «فرنسوا جولياني»؟ لم يكن له شيء من ابراهيم أبي المؤمنين. لم يستطع أن يحضر تضحية ابنته، لكننا سنراه فيما بعد عند شبكة كبوشيات دير «شيتا دي كاستللو»، وسنعرف لماذا.
 
ازدحم الناس في الكنيسة وفي الشارع العريض وفي الأزقّة المقابلة لباب الدير. جلست الراهبات وراء شبكة المناولة يرتّلن المزامير والصلوات والخمار مسدل على وجه كل منهن. ترأس المطران، معتمراً التاج، الاحتفال الذي أقيم بكل حفاوته المؤثرة. آه! فإن ما يجهله أبناء العالم هو أن يسوع كان ظاهراً لأورسولا وحدها، واقفاً إلى جانبها في حين كان المحتفل يعظ. وما إن وقع شعرها تحت المقص حتى طلبت خطيبة المسيح، وهي خجولة لكونها لم تزل في الثياب العالمية، أن تخلعها وترميها وتدوسها بقدميها. لكنها كانت لم تزل في الكابيلا الخارجية المفتوحة على الجميع، بينما يجري في الداخل إلباسها الثوب.
 
وسرعان ما أزاحت الجمع واخترقت الكنيسة والصليب على كتفها، ووقفت أمام البوابة المغلقة التي تؤدي إلى الداخل. الى يسارها قرب الشبكة وقف أولاد الذوات الذين تبعوها حتى آخر لحظة، وهتفت أصوات: «لا يزال الوقت متّسعاً، عودي الى الوراء وكوني سعيدة معنا». فعلاً، التفتت إلى الوراء، لكن لتَكفُر بكل شيء بجلال ملوكي وتودع العالم إلى الأبد. صلصلت المزاليج وفُتح الباب الثقيل، ثم عادت الصلصلة من جديد عند إغلاقه في حين كانت الأصوات تتعالى بالبكاء والشهيق خارجاً، بينما ترتفع من الداخل أصوات العذارى، وكأنها آتية من البعيد، وهن يقدن العروس الى العريس.
 
أضحت أورسولا في قبرها: قبر مظلم، قبر ضيّق، قبر جامد صامت، قبر عقيم لا حياة فيه. هل هو قبر يضمحل فيه الإنسان؟ لا، إن قبرها أكثر إشراقاً من جلد السماء وأوسع من المسكونة والبحار. قبر سيكون له موعد مع السماء ومع المطهر وجهنم. هو قبر ستعيش فيه حياة أغنى بالأحداث من أعظم الإمبراطوريات التي امتدت في التاريخ، وستنجب جيوشاً من المنتخبين. كان ذلك في 28 تشرين الأول سنة 1677، ولم تكمل أورسولا بعد السابعة عشرة من عمرها.
 
أورسولا، لم يعد اسمها أورسولا. بإرادة المطران الذي تنبّأ بقداستها المستقبلية دُعيت «الأخت فيرونيكا». ولم يكن ذلك بغفلة عن العناية الإلهية، فإن معنى اسم فيرونيكا هو «الصورة الحقيقية». فلنحيي فيها الصورة الحية للمسيح المصلوب والفادي.
 
إنها «ضحية». لقد قدّمت ذاتها، وستتكرّس لذلك.
مواضيع ذات صلة